استراتيجية
الصين في الهيمنة على العالم
1 - جذور القصة وأساس الاستراتيجية :
لطالما كانت الشيوعية أمام
تجربتين رئيسيتين ، وهما تجربة الاتحاد السوفياتي وتجربة جمهورية الصين الشعبية ،
والتي وصلت في مراحل لها إلى حدود صدامات كانت ستؤدي إلى حرب نووية بين البلدين خصوصا
في فترة قيادة " ماو تسي تونغ " للصين و " جوزيف ستالين "
للسوفيات ، بسبب النفوذ والسيطرة على الدول الشيوعية الثانوية ، حيث ورغم التقارب
الآيديولوجي إلى أن المصالح الاستراتيجية للبلدين كانت متناقضة تماما ، أو بالأحرى
من منهما يقود الثورة الشيوعية العالمية ، وهذا صراع قد يجهله الكثيرون ، إلا وأنه
وفي ذلك الحين بدأت رؤية السوفييت أكثر نجاعة من رؤية ماو ، الذي أصبحت بلاده في
أزمات اقتصادية هائلة ، وشعبه غارق في الفقر ، وسيطرة كبيرة من قبل الدولة على
الشعب ، فيما بدى للكثيرين وكأنها " عبودية شاملة "، بينما الاتحاد
السوفياتي كان يقف الند للند أمام الغرب ، إلا أن جاء الزعيم الصيني الجديد "
دينغ شياو بينغ " باستراتيجية جديدة ، وهي الانفتاح الكامل للاقتصاد الصيني
أمام الأسواق العالمية ، وهنا نستطيع أن نقول بأن الصين دخلت مرحلة مختلفة ،
وباستراتيجية أقوى ، بعد فشل استراتيجية " ماو " ، واقتناع الصينيين
بذلك ، إنها مرحلة ثورة الاصلاح والانفتاح بقيادة الزعيم الصيني الجديد "
دينغ " الذي أخرج الصين من عزلتها ، بل وجعلها البلد المصدر الأول عالميا ،
واشتدت التنافسية بين التجربة الصينية والتجربة السوفياتية ، إلا أن تولى "
ميخائيل غورباتشوف " قيادة الاتحاد السوفياتي ، ليعلن استراتيجية جديدة في
الانفتاح السياسي والاقتصادي ، لتنتهي تلك الاستراتيجية بانهيار الاتحاد السوفياتي
، هذه الدولة التي تصنف أنها ثاني أعظم امبراطورية في التاريخ بعد الامبراطورية
البريطانية ، ورغم أن السوفيات كانوا يركزون على القوة العسكرية والذهاب بعيدا في
استراتيجية التكافؤ العسكري مع الغرب ، لاعتقادهم بأن المواجهة مع الغرب هي عسكرية
بحثة ، متناسين الدور الاقتصادي والسياسي وما يتعلق بوحدة الصف الداخلي ، لينهار
جيشهم بدون طلقة رصاصة واحدة ، هذا الجيش الذي كان من أعظم جيوش التاريخ وكان يستطيع حرق العالم نوويا في أقل من ساعة واحدة
، ليكون من أعظم أحداث التاريخ درامية ، ليصبح العالم أحادي القطب بقيادة الولايات
المتحدة فقط ، وهذا أعظم انتصار للولايات المتحدة في تاريخها ، بل وأعظم انتصار
استراتيجي ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى تاريخ كتابة هذه الأسطر .
إلا أن الصين لا تقف على شيء
دون أخذ العبرة ، فهنا بدى جليا للقادة الاستراتيجيين في العالم بأن القوة
العسكرية ليست كل شيء ، وأن العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية تحول من صراع
التصادم العسكري بين القوى الكبرى إلى الصراعات الباردة ، حيث لا ينتصر الأعنف بل
ينتصر الأذكى والأغنى ، لأن الدولة إذا كانت غنية اقتصاديا فانها تستطيع أن تصنع
وتطور وتشتري ما تشاء عسكريا ، بينما الجيش بدون اقتصاد فسيتفكك إذا لم يتم دفع
رواتبه فقط ، وأكبر عبرة هي انهيار الاتحاد السوفياتي ، صاحب الجيش الأحمر المرعب
بدون طلقة رصاصة واحدة .
وهنا تعززت الاستراتيجية
الصينية في أن تركزيها يجب أن يكون على الاقتصاد أولا ، والجانب العسكري يلي
الاقتصاد ولا يسبقه ، عكس الاستراتيجية السوفياتية التي كانت تعطي الجيش والسلاح
الأولوية على الاقتصاد .
2 - التجديد
العظيم واستراتيجية الصين 2049 :
وضع الزعيم الصيني الجديد
" شي جي بينغ " عام 2013 أسس السيطرة على العالم عام 2049 من خلال
مبادرة الحزام والطريق ، لتكون النموذج الأكثر تطورا لطريق الحرير ، حيث يهدف لإنشاء
أقوى بنية تحتية برية وبحرية وجوية ، بل وإلكترونية ، في دول آسيا وإفريقيا
وأوروبا ، والدول الأكثر استهدافا بهذا المشروع هي الدول الفقيرة أو التي تعاني
مشاكل اقتصادية ، حيث ستقوم الصين ببناء البنى التحية وخاصة الموانئ في بلدانها
مقابل استعمال تلك الموانئ والبنى التحية لمدة 99 سنة ، وأغلب الدول لن ترفض هذا
العرض لأنه سيجعل من بلدانها طريقا تجاريا يعود عليها بالفوائد الاقتصادية الكبيرة
، وهكذا الصين ستقوم بخنق الولايات المتحدة اقتصاديا بشبكة تبادل منافع ليس
للولايات المتحدة الكثير لتفعله تجاهها ، خاصة
وأنها تعود بمنافع كبيرة على تلك الدول ، وكما كان طريق الحرير في العالم القديم
شريان حياة العالم تجاريا ، سيكون هذا الطريق شريان العالم الحديث ، وبتصرف
صيني ! وبهذه الاستراتيجية يجعل الزعيم
الصيني الجديد " شي " نفسه من أعظم من مروا على تاريخ الصين .
3 - الحرب
الباردة بين الولايات المتحدة والصين :
معالم هذه الحرب الباردة
واضحة وهي ترتكز على الجانب الاقتصادي ، لأن من يسيطر على الاقتصاد يسيطر على
العالم ، فالصين في 2009 أصبحت المصدر الأول للبضائع في العالم ، وفي 2013 تغلبت
الصين على الولايات المتحدة في كونها أكبر دولة تجارية في العالم ، مستغلة بذلك
كثرة اليد العاملة في الصين وانخفاض أجورها ، عكس الولايات المتحدة والغرب عموما
كون اليد العاملة باهضة ، ويعني انخفاظ أجور اليد العاملة في الصين أن بضاعتها
تكون أرخص من البضاعة الأمريكية والغربية عموما حيث اليد العاملة باهضة ، إضافة
إلى ذلك الضرائب المرتفعة ، فكلما ارتفعت تكلفة الإنتاج كلما ارتفع سعره ، وهنا
الولايات المتحدة والغرب لا يستطيعون مجاراة الصين من هذه الناحية ، لهذا هي تغرق
العالم بالمنتجات والبضاعة ، وحتى كبار الشركات العالمية تتجه لتضع مقراتها في
الصين لذات الأسباب ، لهذا قال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على أن الصين
تلتهم الولايات المتحدة ، وحول رسميا السياسة الأمريكية التي كانت تنظر إلى روسيا
كعدو أول إلى أن تنظر إلى الصين كونها العدو الأول ، وحتى بايدن لم يغير هذه
الاستراتيجية لأنها ليست استراتيجية رئيس فقط بل هي استراتيجية الدولة الأمريكية
الجديدة .
4 - مدى
فاعلية هذه الخطة الاستراتيجية للصين :
من الواضح جليا بأن الصين
تسير بخطا ثابتة للنجاح في هذه الخطة ، حيث أدركت بأن التغلب على الولايات المتحدة
لا يكون عسكريا بالدرجة الأولى ، ولا يكون بمزاحمتها في مناطقها الحيوية في الشرق
الأوسط ، بل أدركت بأن الحرب القادمة من يربح فيها هو من يبقى لديه دولار واحد في
جيبه ، وحتما الدول الكبرى جميعا لا تفكر في الحروب لأن أي حرب بين قوتين عظمتين
ستصبح نووية مباشرة ، ما يعني تدمر الدولتين معا ، وهذا حتما شيء غبي القيام به .
5 - أوراق
الولايات المتحدة في مواجهة الصين :
فكما أوضحت فلا يوجد أي
تفكير عسكري في هذه الحرب ، لأن التفكير بطريقة عسكرية يعني نهاية الدولتين معا
فاسحتين المجال أمام دولة أخرى للهيمنة على العالم أو تحالف دول أخرى بالأحرى ،
وهذا منطقي ، لهذا تحاول الولايات المتحدة استغلال نفوذها في الشرق الأوسط وتحديدا
استعمال سلاح الطاقة ، إلا أن ذلك لا يبدوا مجديا ، لهذا تعمل بشكل واسع على ضرب
الصين داخليا كما فعلت مع الاتحاد السوفياتي ، حيث إن تراجع الصين لا يكون إلا إذا
فقدت قوة يدها الفولاذية على الداخل ، فهي كدولة اتحادية من أقاليم عديدة ، تحكم
عرقيات وديانات وأقليات مختلفة ، إضافة إلى هذا حكمها شمولي ، فهذا يعطي للولايات
المتحدة وجبة دسمة للعمل على استغلال هذا المجال ، من ناحية سياسية داخلية مستغلة
بذلك كل الأوراق الممكنة ، لعلها تصل في النهاية إلى نتيجة كنتيجة انهيار الاتحاد
السوفياتي ، إلا أن الصين حاليا متماسكة داخليا وهذا ما يصعب الأمر على الولايات
المتحدة ، إلا أن الولايات المتحدة تاريخيا اثبتت أنها قادرة على التكيف على مختلف
الاستراتيجيات العالمية ، وفي هذا الصراع من الممكن أن ينتصر أي منهما على الآخر ،
ويحدد ذلك طريقة عمل كل منهما خلال المرحلة المقبلة ، والظروف التي سترافق ذلك .
6 - أزمة
كورونا ومحلها من هذه المعادلة :
كان من المرجح أن تكون
الصين القوة الأولى عالميا اقتصاديا بحلول 2032 ، إلا وأنه مع فيروس كورونا بدا
بأن هذا قد تقدم أكثر ، حيث رجحت مؤسسات مالية عالمية أن يكون هذا بحلول 2028 ، ما
يجعل الولايات المتحدة في ورطة من هذا الجانب ، ويكون مرضيا لها في تلك المرحلة أن
تقبل بمكافئة الصين لها تماما كما كان الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة ، بمعنى
عودة العالم إلى قطبين ، قطب الصين بدول الحزام والطريق ، وقطب الولايات المتحدة
مع الغرب وبعض دول الشرق الأوسط ، وحينها حتما سيصبح الشرق الأوسط والعالم العربي
عموما الكفة الراجحة .
ملاحظة : حللت استراتيجيا هذا الصراع دون تحيز ، والهدف هو فهم
أبعاده ، وحتما ما هذا إلا تلخيص فقط لأكبر لعبة شطرنج في العالم .
عزالدين قداري الإدريسي – عالم من
الجزائر، والحائز على الرقم القياسي العالمي في عدد الشهادات العلمية ، في العديد
من التخصصات العلمية ، ومنها في العلوم
السياسية والدبلوماسية والقيادة الاستراتيجية والتأثير العالمي .